نبدأ بسؤال في منتهى الأهمية و هو: هل هناك علاقة سببية أو شرطية بين الدين و التقدم الحضاري؟
والعلاقة السببية تتميز بشيئين أولهما هو ارتباط الحدوث والثاني هو التتابع الزمني. بمعنى أن السبب والمُسَبَّب يرتبط وجود أحدهما بالآخر ارتباطاً قوياً من الناحية الإحصائية، أو بمعنى آخر أن وجود السبب يستتبعه احتمال عالٍ لوجود المُسَبَّب، ووجود المُسَبَّب يستتبعه احتمال عالٍ لوجود السبب (وفي حالة السبب الوحيد فإن وجود المُسَبَّب يستلزم بالضرورة وجود السبب). والتتابع الزمني يعني أن السبب دائماً ما يسبق المُسَبَّب، والعكس غير ممكن. أي أننا لو فرضنا أن الحدث (ح) ينتج من السبب (س)، فإن (س) لا بد أن يسبق زمنياً حدوث (ح)، وحدوث (س) يعني أن احتمال حدوث (ح) كبير، وحدوث (ح) يعني أن احتمال أن (س) قد حدث بالفعل كبير، وإذا كان (س) هو السبب الوحيد للحدث (ح) فإن حدوث (س) يعني أن احتمال حدوث (ح) كبير، وحدوث (ح) يعني حتمية أن (س) قد حدث بالفعل.
أما في العلاقة الشرطية، فوجود الشرط لازم لوجود المشروط وليس سبباً في وجوده. بمعنى أن وجود الشرط قد يصاحبه وجود المشروط أو لا يصاحبه، لكن وجود المشروط يستلزم بالضرورة وجود الشرط. أي أننا لو فرضنا أن (ش) شرط لحدوث (ح)، فإن حدوث (ح) يعني وجود (ش) بالضرورة، بينما وجود (ش) في حد ذاته لا يعطي أي معلومات عن احتمالية حدوث (ح) من عدمه.
فإذا كانت العلاقة بين الدين والتقدم الحضاري علاقة سببية لكان وجود الدين و التدين في أي مجتمع مصحوباً باحتمال كبير لوجود التقدم الحضاري، ولكان وجود التقدم الحضاري يستلزم وجوداً للدين والتدين سابقاً على التقدم الحضاري. وإن كانت العلاقة شرطية لكان وجود التقدم الحضاري غير ممكن على الإطلاق من دون وجود الدين. والحقيقة أنه لا توجد هذه العلاقة ولا تلك، ولنا في التاريخ البشري أمثلة عديدة من أقدم عصور البشرية إلى أحدثها تؤكد أن الدين والتدين ليسا من أسباب التقدم الحضاري ولا هما شرطاً له.
لك أن تتخيل مثلاً الإنسان البدائي الذي اخترع العجلة أو طوَّع النار للطهي وصناعة مواد البناء، هل كانت هذه الإنجازات الحضارية (مقارنة بزمنها بالطبع) مرتبطة بأي شكل بالدين أو التدين؟ وفي الحضارة المعاصرة، فإننا نجد تقدماً حضارياً في بلاد يقل فيها الاهتمام بالدين بدرجة كبيرة كدول اسكندنافيا، وتخلفاً حضارياً عميقاً في بلاد أخرى يبدو أنها تعطي الدين أهمية كبيرة مثل موريتانيا والصومال وأفغانستان.
لكن مما لا شك فيه أن الحضارة طُوِّعت لخدمة الدين على مر العصور، ويبدو أن أهم الإنجازات الحضارية التي طوِّعت لخدمة الدين العمارة والفلك، فنجد في العديد من الحضارات القديمة والحديثة مباني ضخمة و مهيبة بنيت لأغراض دينية، ونجد التقدم في حساب الأوقات والأزمان فلكياً طُوِّع لحساب المناسبات الدينية، وارتبطت حركات الأجرام السماوية ببعض الديانات القديمة. والمثير للاهتمام في هذا كله أن الإنسان يبدو أنه لم يطوِّر شيئاً أو يبتكره فقط لخدمة الدين، وإنما كان يستخدم حضارته البشرية لخدمة الدين، وحتى ما يبدو من التطور خادماً للدين وحده كالتحنيط عند قدماء المصريين لا نعلم عنه الكثير ولا نعلم أصل هذا العلم وكيف نشأ وهل نشأ أولاً ثم طوِّع لخدمة الدين أم أنه نشأ أصلاً لخدمة الدين.
ولطالما سمعت من بعض الأصدقاء أن الدين والتدين يرتقيان بالسلوك الإنساني مما ينتج عنه ازدهار في الحضارة. وأؤكد هنا أن الدين لم يزل في نظري ونظرهم أيضاً لا سبباً ولا شرطاً للحضارة، وإنما يعتبرونه من العوامل المساعدة للارتقاء بالحضارة البشرية. ولهم أوجه بعض أسئلة علها تزيل هذا الالتباس من عقولهم. هل كانت إمبراطورية المغول التي شملت معظم قارة آسيا و جزءاً من قارة أوروبا مبنية على الدين؟ هل أثر الدين على التقدم الحضاري للإمبراطورية اليونانية أيام الإسكندر الأكبر الذي قاد جيشه فاتحاً العديد من البلاد بهدف استرجاع كرامة اليونان؟ هل أثر الدين على التقدم الحضاري للدولة الرومانية أيام فتوحات يوليوس قيصر؟ وماذا حدث لتلك الدولة حضارياً بعد أن حاول أن يصير ديكتاتوراً مؤلهاً؟
وفي الحضارة الحديثة، هل تجد هناك أي ارتباط بين تدين العالِم وعلمه؟ أنا شخصياً أعرف العديد من العلماء من أديان مختلفة، ومنهم المتدين وغير المتدين، ومنهم من يؤمن بوجود إله ومنهم الملحد، ومنهم من هو على خُلُق ومنهم من في خلقه آفة، ولم أجد ارتباطاً على الإطلاق بين درجة التدين ومقدار العلم أو بين دين ما والرغبة في اكتشاف الجديد وسبر أغوار المجهول، أو بين الخُلُق وبين القدرة على الابتكار والتطوير.
فمن أين يأتي وهم ارتباط التقدم بالدين والتدين إذاً؟ لا أظن أن هذا الارتباط قائم إلا في عقول بعض أصدقائي من المسلمين تحديداً، وأقول البعض و ليس الكل. ولست أعرف علماء من كل أديان الأرض كي أدعي أن هذه قاعدة مطلقة، ولكن هذه ملاحظتي الشخصية وليست تعميماً مطلقاً. والحقيقة لا أدري لماذا عندما أقرر أنه لا علاقة بين التدين و التقدم الحضاري أجد من أصدقائي المسلمين دون غيرهم من ينبري دفاعاً عن أهمية الدين في حياة البشر، ولم أدَّعِ أبداً أن الدين ليس مهماً ولم أدْعُ لترك الدين، و إنما أؤمن أن الدين علاقة بين الإنسان وربه لا دخل لها بقدرة الإنسان على التعلم والتفكير والابتكار والتطوير.
فإن كان هناك في الإسلام ما يربط الدين ربطاً وثيقاً بالتحضر فأخبروني به عافاكم الله، فلست أعلم في المسيحية أو اليهودية له مثيلاً وأنا أدين بإحداهما ودارس جيّد للأخرى، وفسروا لي كيف أن بلاداً تدَّعي التمسك بالإسلام وتطبيق شرعه هي نماذج التخلف الحضاري والهمجية في عالمنا. إن كان ارتباط التدين بالتقدم الحضاري أمراً غير قاصر على الإسلام، فهناك العديد من الأمثلة التي تنفي ذلك نفياً باتاً، وإن كان قاصراً على الإسلام فأخبروني وفسروا لي الواقع الذي يؤكد لنا أن بلاداً مسلمة مثل تركيا وإندونيسيا لا ينصب همها على الدين هي نماذج للتقدم الحضاري، بينما بلاد أخرى مسلمة تدعي أن الدين شغلها الشاغل هي نماذج للتخلف الحضاري العميق، وأرجو ألا يقول منكم قائل أن نماذج التخلف لا تطبق الإسلام الصحيح، فما هو في نظرك غير صحيح يحتل أعلى مراتب الصحة في نظر هؤلاء، فإما أن نفصل علاقة الدين بالتقدم مطلقاً كسبب أو شرط و إما أن نقبل بهذا النموذج من الفشل الحضاري دليلاً على انتفاء العلاقة بين التدين والتقدم الحضاري.
أسوق مثالاً آخر يدلل على وجهة نظري. في هذا الرابط سوف تجد قائمة بالعلماء الملحدين الذين أسهموا بالعديد من الإنجازات والاكتشافات والنظريات التي ساعدت على تقدم البشرية. هؤلاء قوم ملحدون لا يؤمنون أساساً بوجود الله، ولم يعقهم ذلك عن تحقيق التقدم العلمي الحضاري، ومنهم العديدون من الحاصلين على جائزة نوبل. وليس هذا في مجال العلم وحسب، بل في مختلف المجالات، وهذا الرابط يعدد خمسين من الملحدين المشهورين في الفلسفة والفنون والموسيقى والرياضيات والعلوم والاقتصاد.
يصعب علي جداً بعد ذلك كله أن أقتنع أن الدين أو التدين مرتبطان بالتقدم الحضاري بعلاقة سببية أو شرطية. و لا أرى في ذلك عيباً ولا سباباً في الإسلام ولا في أي دين آخر، وإنما أرى فيه رؤية منطقية غير متحيزة للواقع، ولا أدري لماذا يصر البعض على ربط التدين بالتقدم الحضاري كسبب أو شرط، ولا أدري لماذا يغضبون ويُستَفَزون بشدة عندما أؤكد أن الدين لا علاقة له بالتقدم الحضاري إلا في عقولهم فقط.
يا سادة يا كرام يا أولي الألباب، الحضارات قامت منذ فجر التاريخ بدون وجود الإسلام ولا غيره من الأديان، وقامت في ظل وجود أديان وثنية انقرضت من على وجه الأرض، وكذلك قامت الحضارة في وجود المسيحية والإسلام وتدهورت الحضارة وعم التخلف في وجود المسيحية والإسلام، وكذلك الحال بالنسبة للأديان الأخرى على وجه الأرض في يومنا هذا. لن يدفعكم للتقدم الاستمساك بعرى الدين الوثقى ولا تطبيق شرع الله في الأرض، ولكن سيدفعكم وينفعكم النظام والعمل والاجتهاد والمثابرة. هذه هي مقومات الحضارة وأسبابها وليس الدين، وإن لم تعوا هذا سريعاً فسيتقدم العالم تاركاً إياكم خلفه تحاولون تحقيق الحضارة بالتدين. تدينوا كيفما شئتم ودينوا بأي دين شئتم، لكن اعلموا أن هذا لا علاقة له البتة بالتقدم الحضاري.
هذا المقال هو أحد مجموعة من المقالات عن بعض المفاهيم في المسيحية. ستجد في هذا الرابط قائمة بالمقالات المتاحة.
الاعتقاد الشائع عند بعض الإخوة المسلمين أن الخمر مباحة في المسيحية، و عليه فإنه لا بأس على المسيحي أن يشرب الخمر حتى الثمالة أو أن يدمن الخمر، و ربما كانت هذه الفكرة نابعة أساساً من المنهج الإسلامي في التعامل مع الخمر و هو ”ما كان كثيره مسكر فقليله حرام“، و قد حُرِّم على المسلم أن يتعامل مع الخمر بأي شكل من الأشكال، و بالتالي ينظر العديد من المسلمين إلى المسيحيين نظرة دونية عندما تُذكَر الخمر و يظنون أن من يشرب منها القليل لا بد و أن ينتهي بإدمانها أو بتدمير صحته بسبب تليف الكبد الناتج من فرط شرب الخمر. و الواقع أن هناك عدة مفاهيم لا بد أن تُصَحَّح في هذا المجال.
في قاموس ’مقاييس اللغة‘، الحاء و الراء و الميم أصل واحد و هو المنع و التشديد، و الحرام هو عكس الحلال و هو المباح فعله. و قد ذكر فعل ’حَرَّمَ‘ في الكتاب المقدس في عدة مواضع في العهد القديم و لم يذكر و لا مرة واحدة في العهد الجديد، و في كل مواضع ذكره في العهد القديم نجد أن الترجمة الإنجليزية له هي ‘utterly destroy’، و تعني التدمير الكامل، و سياق الكلام لا يعطيها معنى آخر. و هذه هي مواضع ذكره في العهد القديم:
و كان تحريم (بمعنى منع) الأشياء في العهد القديم يُعطَى كأمر مباشر من الله بالنهي عن تلك الأشياء أو أمر مباشر بفعل شيء محدد و عليه تكون مخالفته عصياناً لله، فنجد مثلاً في سفر اللاويين في الإصحاح الحادي عشر تحديداً للبهائم و الأسماك و الطيور و الدواب النجسة بصفاتها أو أسمائها أو كليهما. أما في العهد الجديد فنجد مفهوماً مختلفاً للنظر إلى الطعام و الشراب و إلى المادة عموماً من ملابس و زينة و مال و مسكن و غيرها، و هي تتلخص في قول بولس الرسول:
فلا ينظر المسيحي للمادة على أنها محللة أو محرمة، و لكن ينظر إلى أبعد من المادة، ألا و هو حياته الأبدية و حياة إخوته في الكنيسة. فإن كان الطعام أو الشراب أو غيرها من المواد الدنيوية ستتسبب في أن يُعثَر مؤمن و يخطئ فالمسيحي يتجنبها حرصاً على حياته الأبدية. يقول السيد المسيح:
فالمسيحية لا تحرِّم المادة في حد ذاتها أبداً و لكنها تترك مسألة المنع و الإباحة لكل إنسان حسب ضميره و إيمانه و أيضاً حسب الأشخاص المحيطين الذين قد يعثروا، و في جميع الأحوال لا ينبغي أبداً أن يُستَعبَد المسيحي للمادة بعد أن حررنا المسيح. و عليه فإن البعض قد يمتنع عما هو محلل بالطبيعة عند كل الناس لئلا يعثر الآخرين كما قال بولس الرسول:
لا توجد مواد محرمة في المسيحية مطلقاً. و مصطلحا ’الحرام‘ و ’الحلال‘ غير موجودين في المسيحية، بل وصايا الله التي تهتم بالسلوك و بالروحانيات و ليس بالماديات. يمكن أن يعيش المسيحي في نسك متواصل و زهد في الطعام دون أن يلتزم بأيام معينة للصوم، و مع ذلك تحدد الكنيسة أياماً للصوم، و يمكن أن يحيا في حضرة الله طوال الوقت دون أن يلتزم بصلوات يومية محددة، و مع ذلك تحدد الكنيسة صلوات، و تفعل الكنيسة هذا للتذكير و لكي يشترك كل المؤمنين في وسائط النعمة و يحيوا كأعضاء في جسد المسيح الواحد.
موقف المسيحية من الخمر و السُكْر
الكتاب المقدس في عهديه القديم و الجديد لم ينهَ عن شرب الخمر و لكنه بين كيف أن السكر يذهب بالعقل و يتسبب في عصيان الله و الوقوع في الخطيئة. الخمر في العهد القديم كان رمزاً للرخاء بصفته ناتجاً من زروع الأرض، و نرى ذلك في البركة التي أعطاها إسحق ليعقوب:
و نهى الله الكهنة عن شرب الخمر عند دخولهم إلى خيمة الاجتماع (و هي ما يقابل هيكل سليمان في فترة ما قبل بناء الهيكل) و كانت عقوبة مخالفة هذه الوصية الموت:
و عندما كانت حنة أم صموئيل تصلي بمرارة عند قائمة الهيكل (من الخارج) حتى ظنها عالي الكاهن سكرانة انتهرها، و نفت عن نفسها السكر كبنات بليعال (عبدة الوثن بليعال) مما يوضح نظرة اليهود الدونية للسكر.
أذكر هنا بعض الإحصاءات الكندية من عام ٢٠١٠ عن استخدام الكحوليات في كندا، و قد اخترت كندا لعدة أسباب، فأنا كندي مصري و أعيش في كندا، و تضم كندا سكاناً من كافة أجناس و أعراق الأرض فيمكن اعتبارها عينة من سكان الأرض، كما أن الديانة الغالبة على سكانها هي المسيحية التي لا تحرم الخمر، و المجتمع الكندي عموماً لا ينظر للخمر نظرة التحريم و لكنه يعي تماماً الأخطار التي يمكن أن تنتج من الاستخدام السيء أو الإفراط في شرب الخمر.
نسبة المستخدمين للكحوليات بإفراط في الكم و التردد على الشرب ٤.٣٪ و من هؤلاء (و ليس كلهم) مدمني الخمر، و نسبة الذين يفرطون في استخدام الكحوليات كماً و لكن بصفة متقطعة ٤.٦٪، و من هؤلاء الذين قد يسكرون في الحفلات و لكنهم ليسوا مدمنين للخمر، و نسبة الذين يشربون قليلاً من الخمر بصفة شبه مستمرة ٣٢.٢٪، و من هؤلاء من يفضل أن يشرب كأساً من النبيذ مع الغذاء مثلاً، و نسبة الذين يشربون قليلاً من الخمر بصفة متقطعة ٣٥.٧٪، و منهم من يشرب الخمر في المناسبات فقط، و نسبة الذين شربوا خمراً من قبل لكن لم يفعلوا ذلك خلال العام السابق للإحصاء ١٢٪، و نسبة من لم يذوقوا الخمر مطلقاً في حياتهم ١١.٢٪، و في المقابل نجد مثلاً أن نسبة المدخنين بصفة يومية ١٧٪ و المدخنين السابقين ٢٦٪ و الذين لم يدخنوا قط ٥٧٪، مما يعكس وعي المجتمع بالأضرار الصحية للتدخين (٥٧٪ لم يدخنوا في مقابل ١١.٢٪ لم يشربوا الخمر) و انتشار إدمان التبغ أكثر من إدمان الخمر (١٧٪ تدخين يومي في مقابل ٤.٣ على الأكثر إدمان خمر)
و الطريف و الجدير بالذكر أن شرب الكحوليات بصفة معتدلة و منتظمة لا ينتج عنه ضرر بقدر فائدته، فهو يحمي من أمراض الشرايين التاجية في القلب، و ذلك بحسب توصيات اتحاد القلب الأمريكي (American Heart Association ) لعام ٢٠٠٦، و لكن لا يعد هذا مبرراً للإفراط في شرب الخمر مطلقاً، حيث أن أخطار ذلك على الصحة و المجتمع معروفة للجميع.
الإفراط في شرب الكحوليات يؤدي إلى تليف الكبد حتماً، و قد يلي ذلك الفشل الكلوي، كما أنه يؤثر سلباً على وظائف المخ، و قد يؤدي إلى السمنة نظراً لارتفاع القيمة السعرية له، و قد يؤدي أيضاً لأمراض سوء التغذية، و في المرأة الحامل يؤدي إلى حدوث متلازمة الجنين الكحولية (Fetal Alcohol Syndrome) التي تتسبب في التأخر العقلي و بعض العيوب الخلقية في المولود. هذا كله إضافة إلى الأبعاد الاجتماعية للإدمان من فقدان القوة البشرية المنتجة و ضياع الأموال و انتشار الجرائم كالسرقة و الدعارة، و حدوث التفكك الأسري و التنشئة الفاسدة للأطفال.
و نرى من واقع الأرقام السابقة أن ليس كل من يشرب الخمر يدمنها، و لا كل من يشرب الخمر يسكر بها، و المجتمعات الغربية تحاول التخلص من مشاكل شرب الخمر و ليس من الخمر ذاتها، فتقوم بحملات التوعية ضد قيادة السيارات تحت تأثير الخمر و تسن القوانين لذلك، و في بعض الدول ككندا يُمْنَع شرب الخمر في الأماكن العامة عدا المخصصة لهذا الغرض، و تُوَفَّر المساعدة لمدمني الخمر للتخلص من إدمانهم. تجريم بيع و صناعة الخمر حل عقيم ثبت فشله بالتجربة العملية، لأن الخمر يمكن صنعه بسهولة في المنازل و بخامات متوفرة و رخيصة.
القليل من الخمر
وردت آية في الكتاب المقدس في رسالة معلمنا بولس الرسول إلى تلميذه تيموثاوس يستخدمها أحياناً بعض صغار النفوس في تبرير الإفراط في شرب الخمر:
و الواقع أن بولس الرسول كان يصف لتلميذه ما كان متبعاً وقتها في التداوي، و لم يكن يتكلم بصفة عامة. نجد في رسائل بولس الرسول العديد من المواقع التي يتحدث فيها عن أمور مختصة بالوقت الذي كتبت فيه الرسائل، و لا بد من تمييز هذه المواضع عن غيرها لكي لا نقع في الخطأ. لا يمكن أن يقول بولس الرسول إن السكير لا يرث الملكوت ثم ينصح تلميذه بفرط شرب الخمر. و الحقيقة أن الكلمات لا تحتاج لتفسير أكثر لأنه يقول "خمراً قليلاً". و لكن وجب الذكر لتكميل المعنى و المحتوى.
الخاتمة و الخلاصة
لا يوجد تحريم و تحليل للمادة في المسيحية. تهتم المسيحية بالسلوك و الروحانيات أكثر بكثير من المظاهر و المادة. شرب الخمر ليس خطيئة في المسيحية و إنما السكر و إدمان الخمر هو الخطيئة التي قد تتبعها خطايا أخرى ناتجة عن ذهاب العقل و العبودية للخمر. القليل من الخمر فعلاً له فائدة صحية كما أثبتت الأبحاث، غير أن الفائدة ليست للمعدة كما كان شائعاً أيام بولس الرسول، و يجب على المسيحي أن يكون عنده التمييز اللازم لئلا يقع في بئر الإدمان. من يخشى من المسيحيين أن يدمن الخمر و من لا يعرف متى يتوقف عن شرب الخمر قبل أن يسكر عليه ألا يشربها مطلقاً و ذلك بناء على قول معلمنا بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية الإصحاح ١٤. الخمر في المسيحية كأي مادة أخرى مثل الملح أو الدهون أو السكريات. الإفراط الزائد في الاستخدام له مشاكل صحية. ليس المسيحي بسكير و لا المسيحية تبيح السكر و لا إدمان الخمر.
معظم سكان الأرض يدينون بدين ما ويعتقدون في وجود إله خالق للكون مدبر لشئونه. ولكل دين معتقداته وطقوسه والتزاماته التي تُفرَض على أتباع الدين، والفرق بين التزامات الدين وأحكام القانون أن الأولى اختيارية (إذا سلمنا بحرية العقيدة) والثانية إجبارية في المجتمع الذي يحكمه القانون. القانون يحكم النظام العام للمجتمع لضمان استقراره، أما الدين فهو علاقة روحانية بين الإنسان والله وليست له علاقة مباشرة بالضرورة باستقرار المجتمع. العديد من المجتمعات التي لا يغلب عليها الطابع الديني مستقرة تماماً، وفي المقابل هناك العديد من المجتمعات المتدينة تغرق في بحور من الفوضى. أما المجتمعات التي يُحتَرم فيها القانون فتجدها دوماً مستقرة. ثم إن المجتمعات المختلفة تتباين في أغلبيتها الدينية ولا يبدو ذلك مرتبطاً بالضرورة بالاستقرار أو النمو، فمن الدول المتقدمة تكنولوجياً واقتصادياً الصين واليابان (البوذية) وإندونيسيا وتركيا (الإسلام) والولايات المتحدة وألمانيا (المسيحية) والهند (الهندوسية). وفي المقابل نجد الصومال وأفغانستان (الإسلام) والمكسيك وكولومبيا (المسيحية) وكامبوديا (البوذية) ونيبال (الهندوسية)، كلها مجتمعات فقيرة مضطربة ليس للقانون فيها احترامه الواجب. وعلى الرغم من أن احترام القانون ليس العامل الوحيد في استقرار وتقدم الدول، إلا أنني أحسبه من العوامل الهامة جداً.
وطبقاً للمادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فإن القانون لا بد أن يساوي بين المحكومين به بغض النظر عن اختلافاتهم البيولوجية والفكرية، والدين من أحد هذه الاختلافات. وعليه فإنه لا يجب أن يصرح القانون أو يلمح بالممايزة بين المحكومين به بناء على الدين، وذلك إذا كانت دولة هذا القانون تحترم حقوق الإنسان وتحقق المساواة التامة بين مواطنيها. كندا على سبيل المثال دولة علمانية أغلب سكانها من المسيحيين، والدستور الكندي بموجب ميثاق الحقوق والحريات الكندي الصادر في ١٩٨٢ يحظر التفرقة بين المواطنين كما نص إعلان حقوق الإنسان ويكفل للمواطنين جميعاً حرية العقيدة والعبادة. ليس هناك قانون واحد في كندا كلها يحرم أي مواطن من حق من حقوقه الأساسية بناء على الدين.
أما الالتزام الديني فهو أمر آخر. العديد من الأديان تلزم أتباعها إلزامات معينة في الطعام والشراب، فالمسيحيون يصومون في أيام محددة عن الطعام والشراب ويفطرون على طعام نباتي (على الأقل هذا هو الحال عند الأقباط الأورثوذكس) والهندوس لا يأكلون لحم البقر، واليهود لا يأكلون الخنزير ولا الجمل ولا قشريات البحر ولا المحارات، والمسلمون لا يأكلون الخنزير ولا يشربون الخمر ويصومون رمضان فرضاً، والبوذيون نباتيون لا يأكلون قط ما هو من أصل حيواني. والعديد من الأديان أيضاً تلزم أتباعها بقوانين خاصة في الزواج والطلاق، وبشعائر خاصة في العبادة، وقد تلزمهم بارتداء زي معين أو اتخاذ مظهر معين كما هو الحال مع السيخ، وهلم جرا.
والسؤال هنا هو: هل يمكن أن نحول الالتزامات الدينية إلى قوانين، أو هل يمكن أن نشرع قوانين تختلف باختلاف الدين؟ في بعض البلاد الإسلامية هذا حادث بالفعل، فيُعاقَب من يجاهر بالفطر في رمضان (سواء كان مسلماً أم لا) ويُعاقَب من يعمل وقت الصلاةوتُعاقَب المرأة السافرة على الملأ. وفي معظم البلاد الإسلامية تُمنَع المسلمة من الزواج من غير المسلم حتى وإن أرادت ذلك، ويُحَرَّم التبني. وفي مصر تحديداً ونظراً لوجود عدد كبير من المسيحيين بها، فإن قوانين الأحوال الشخصية تختلف باختلاف الديانة، وعندما يكون أحد طرفي النزاع في الزواج مسلماً تطبق أحكام الشريعة الإسلامية التي تضع الإسلام فوق كل الأديان الأخرى.
و أنا أرفض رفضاً تاماً هذا المزج بين العقيدة الدينية و بين قوانين الدولة للأسباب التالية:
رمز العدالة: إمرأة معصوبة العينين تحمل سيفاً وميزاناً[٢]
أؤمن بالمساواة التامة بين المواطنين. اتخاذ دين ما كمرجع أساسي لتشريع القوانين فيه من دون أدنى شك تمييز لأتباع هذا الدين عمن يخالفهم، وخصوصاً في الإسلام واليهودية وهما دينان—على حد علمي—يعتقد كل منهما أن أتباعه هم خير أمة ويرفعهم عن غيرهم في المكانة وينظر نظرة دنيا لمن سواهم، وذلك بخلاف البوذية مثلاً التي تخلو تماماً من تلك النظرة للآخرين. مفهوم المواطنة يقوم على المساواة التامة بين المواطنين في جميع الحقوق والواجبات المدنية، وهو حتماً يختلف كلية عن مفهوم التعايش السلمي و’السماحة‘، تلك المفاهيم التي يضعها دعاة تطبيق الشريعة الإسلامية خطأ بديلاً للمواطنة. التعايش السلمي يعني ألا تؤذي فئة من المجتمع فئة أخرى، ويختلف مفهوم الأذى من فئة إلى فئة في نفس المجتمع، وقد يكون في منع ’الأذى‘ عن الأغلبية انتقاص غير مبرر لحق الأقلية، أما السماحة فهي أن الأغلبية تسمح للأقلية بالعيش وسطهم وممارسة حقوقهم وكأن ذلك منة من الأغلبية على الأقلية وليس حقاً أصيلاً. المواطنة في المقابل تحدد الحقوق والواجبات دون النظر إلى دين المواطن مطلقاً، فإن حدث وتبدل دين المواطن فإن الحقوق و الواجبات لا تتأثر البتة بذلك.
أؤمن أن الحقوق الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان هي حقوق أصيلة ثابتة ولا بد من ضمانها لكل البشر. وللجميع الحق في أن يتنازل عن حق من هذه الحقوق إن أراد، وأن يستردها متى أراد. لكل دين خصائصه، وجعل هذه الخصائص قوانين إنما يفرض على المواطنين أحكام دين ما دوناً عن غيره ويُلزِم الجميع بإلزامات هذا الدين وفي هذا قد يُحرَم البعض من حقوقهم المقررة في إعلان حقوق الإنسان، فيلتزم غير المسلم مثلاً بالامتناع عن الطعام والشراب على الملأ في رمضان، أو يُمنَع غير المسلم من الزواج من المسلمة وإن كان الطرفان يرغبان في الزواج. من أراد أن يُلزِم نفسه بالتزامات دينية معينة تحرمه من بعض الحقوق الأصيلة للإنسان، فتلك حريته الشخصية التي يجب أن يحترمها الجميع، وله أن يسترد كامل حقوقه وقتما شاء ودون قيود.
العقيدة حرية شخصية بحسب حقوق الإنسان، ومن حق كل إنسان أن يعتقد فيما شاء وقتما شاء وأينما شاء بشرط ألا يخالف قوانين الدولة بأفعاله، وقوانين الدولة تعاقب على الأفعال وتجرم الأفعال ولا تجرم الأفكار والآراء والمعتقدات. فمثلاً لا يوجد قانون يعاقب من يعتقد أن القتل مباح بصفة عامة بينما يوجد ما يعاقب القاتل، وليس قانون يعاقب من يفكر في خيانة الدولة وإنما من يخون الدولة فعلاً بالتجسس أو التخابر مع أعدائها. حرية المعتقد إذاً مطلقة، وعليه فلا يصح أن يميز القانون بين المواطنين بناء على المعتقد الديني. ثم أن للأديان مفاهيم مختلفة ومذاهب، وهذه بدورها تختلف في بعض أحكام الدين وبما يُسمَح به ولا يُسمَح به، ويعد اختيار مذهب ما كأساس لتشريع القوانين جوراً على المذاهب الأخرى. ففي مصر مثلاً ينتشر المذهب الحنفي وهو الأساس في التشريع عامة، ويحتمل أن يكون في تطبيقه ما يتعارض مع قناعات ومعتقدات أتباع المذاهب الأخرى، كما إنه غالباً ما سيتعارض مع معتقدات الشيعة، وفي مصر أيضاً يشكل الأقباط الأورثوذكس الغالبية العظمى من تعداد الأقباط، ونجد أيضاً الكاثوليك والبروتستانت، فيكون في الالتزام بالمعتقد الأورثوذكسي جور على الطوائف الأخرى، ويكون في عدم الاعتراف بديانات غير الإسلام و المسيحية واليهودية جور على أتباع هذه الديانات وتقييد لحرية العقيدة، حيث أن للدين خانة لازمة في بطاقة الهوية المصرية.
الدين علاقة روحية بين الإنسان وربه والقانون علاقة دنيوية بين البشر. اختلف الناس على وجود الله من عدمه أساساً، ثم اختلفوا على اعتناق دين ما أو اللادينية التامة، ثم اختلف معتنقو الأديان في أديانهم وفي مذاهبهم، وكلها اختلافات لا تفسد قضية المواطنة، فهم يشتركون في نفس الوطن ويعيشون على نفس الأرض وتحت نفس السماء وتجمعهم ثقافة مشتركة وغالباً ما تجمعهم لغة مشتركة أيضاً، ويحدد القانون علاقتهم ببعضهم البعض. الدين يشمل غالباً يقيناً بالغيبيات والأمور الروحية التي يتعذر التدليل عليها بما لا يدع مجالاً للشك، والدين عامة يترك الثواب والعقاب لله في الحياة الآخرة بعد الموت أو حتى في الحياة الدنيا، وليس للإنسان أن يتدخل في تلك العلاقة ما لم ينتج عنها اضطراب في النظام العام للمجتمع وجور على حقوق الآخرين. على سبيل المثال، طائفة شهود يهوه تمنع أتباعها من الالتحاق بالقوات المسلحة، فيكون وجودها في مصر مخلاً بالنظام العام حيث أن التجنيد في مصر إجباري (وإن كنت أنا شخصياً من معارضي فكرة التجنيد الإجباري).
فما هو الحل المقترح؟ في رأيي المساواة التامة هي الحل، وكل من أراد أن يُلزِم نفسه بتعاليم أو إلزامات في دينه تزيد عن القاسم المشترك الأعظم للمجتمع كما ينص عليه القانون له مطلق الحرية أن يحرم نفسه طواعية من حق من الحقوق الأساسية التزاماً بدينه. فيكون (على سبيل المثال وليس الحصر) الأساس أن من حق كل رجل أن يتزوج امرأة وكل امرأة أن تتزوج رجلاً و لا يحق لأي منهما الجمع بين أكثر من زوج إلا بموافقة كل الأطراف المعنية بالأمر، ولكل منهما الحق في طلب الطلاق أمام المحكمة أو الاتفاق على الطلاق فيما بينهما. لا يخل هذا النص بحق الرجل المسلم في الزواج من المسلمة أو الذمية أو الجمع بين أربع زوجات في نفس الوقت طالما كانت جميع الأطراف راضية، ولا يحرمه من حقه في أن يطلق امرأته متى شاء، ولكنه يترك للمرأة المسلمة مسئولية أن تلتزم بدينها فتمنع نفسها عن زوجها الذي رماها بيمين الطلاق وتُحرِّم نفسها عليه بعد ثلاث طلقات بينات، ويترك للمرأة المسلمة وزوجها مسئولية الالتزام بدينهما في ألا تجمع المرأة أكثر من زوج في ذات الوقت وألا تتزوج من غير المسلم. ولا يخل القانون أيضاً بحق المسيحي والمسيحية في الزواج و يمنحهما حرية الطلاق، ومن أراد أن يلتزم بتعاليم الكنيسة في وجوب الزوجة الواحدة والزوج الواحد وفي الحالات القليلة جداً الذي يباح فيها الطلاق دينياً فله كامل الحرية في أن يلزم نفسه بذلك. على الدولة أن تراعي تطبيق القانون على المواطنين بلا تفريق وليست عليها أن تجبرهم بالالتزام بالدين.
ولكن ذلك لن يحدث أبداً في المجتمعات الإسلامية. أتدري لِمَ؟ لأن المسلمين مأمورون بتطبيق شرع الله في الأرض، و هو طبعاً الشريعة الإسلامية، فالمسلم وجب عليه أن يحاول قدر استطاعته أن يفرض قواعد الإسلام على من حوله، وبالأخص جداً في مجتمع يغلب عليه الإسلام ديناً. أي أن المجتمع الإسلامي حتماً سوف يميز بين الرجل والمرأة وبين المسلم وغير المسلم! لن تجد أبداً مجتمعاً يزعم أنه إسلامي المرجعية فيما يتعلق بتشريع القانون يساوي بين جميع مواطنيه بشكل تام.
وقد يُقال إنه لا بأس من أن يكون التشريع القانوني عاكساً للتركيبة الاجتماعية للشعب، فإذا كان الأغلبية من المسلمين فإن تشريع القوانين يغلب عليه الطابع الإسلامي منطقياً. أقول إن المرجعية الفكرية شيء والمرجعية الدستورية شيء مختلف تماماً. لكل إنسان مطلق الحرية وكل الحق في أن يتخذ من منظومة فكرية يختارها مرجعاً له في اتخاذ القرارات، ولكن لا يصح أن تُفرَض هذه المنظومة الفكرية على الجميع ممن يؤمنون ومن لا يؤمنون بها. التركيبة الاجتماعية والعقيدية والثقافية لأي شعب ستنعكس بالضرورة في تشريع القوانين سواء وجدت مرجعية دينية في الدستور أم لم توجد. في الإسلام مثلاً يُعاقَب القاتل بالقتل، ولا أظن أبداً أن الدول ذات الأغلبية الإسلامية ستلغي حكم الإعدام يوماً ما. وقياساً على ذلك في مصر فإن مواعيد العمل تتغير في شهر رمضان، والأعياد الإسلامية عطلات رسمية للدولة، وتُخَصَّص عربتان في مترو الأنفاق للسيدات، ويعد استخدام مكبرات الصوت في التأذين بالصلاة خمس مرات كل يوم أمراً طبيعياً جداً لا يعاقب عليه القانون، ويسمح القانون للرجل بالزواج من أكثر من امرأة. كل هذه مظاهر مختلفة تعكس الثقافة الإسلامية والشرقية لأهل مصر، ولا يلزم لوجودها مرجعية دينية في الدستور، ولا تفريق فيها بين المسلم وغيره.
أما مظاهر التمييز، سواء كانت موجودة بالفعل أم يمكن وجودها إن فُتِح الباب لذلك، فقد تحدثت عنها من قبل في مقال سابق وأكدت على أنني أرفضها رفضاً تاماً.
وعارضني بعض أصدقائي من المسلمين بحجة أنهم في الدول الغربية تنطبق عليهم قوانين تلك الدول التي لا تسمح للرجل المسلم بالزواج من أكثر من امرأة، فتحرمه بذلك من حق أعطاه إياه دينه. وأقول لهم إن ذلك إنما ينبع من مبدأ المساواة التامة بين كل البشر، فتلك المجتمعات لن تعطي الرجل حقاً يفوق حق المرأة، كما أنها لا تحرم المسلم من الزواج ولا من ممارسة شعائر دينه، ولا تحرمه من الطلاق ولا من التبني، إنما يحرمه دينه من ذلك. وإضافة، فإن تعدد الزوجات في الإسلام ليس ركناً من أركان العبادة، ومعظم المسلمين ملتزمون بزوجة واحدة. أرجو ألا تقارنوا التمييز القائم في الشريعة الإسلامية بالمساواة التامة القائمة في القانون المدني معتبرين ذلك تمييزاً ضد المسلمين! وقد حكمت المحكمة العليا لمقاطعة بريتش كولومبيا بكندا بدستورية قانون الزوجة الواحدة، وأخذت في الاعتبار الإسلام كأحد الديانات التي تبيح تعدد الزوجات، وانتهى رأي المحكمة إلى أن ذلك القانون دستوري ولا يخل بمبادئ المساواة ولا بحقوق الإنسان، ويمكن لمن يريد الاطلاع على نص الحكم و حيثياته، وهي وثيقة مطولة.
والخلاصة أن الالتزام الديني هو مسئولية الفرد وله مطلق الحرية في أن يلتزم بتعاليم الدين أو لا يلتزم، وفي ذلك له أن يحرم نفسه من بعض الحقوق الأساسية، وله أن يستردها وقتما شاء، وليس للدولة حق إلزام المواطنين بتعاليم الدين، وإنما للدولة كل الحق في إلزام مواطنيها بأحكام القانون التي لا ينبغي مطلقاً أن تميز بين المواطنين بناء على الاختلافات البيولوجية أو الفكرية، والتي لا تهدف في مجملها إلا إلى إرساء العدل وتنظيم العلاقة بين الأشخاص في الدولة سواء كانوا حقيقيين أم اعتباريين. الدين التزام والقانون إلزام، وشتان الفارق بين هذا وذاك، فلا تلزموا الناس بالدين و لا تتوقعوا منهم التزام القانون في كل الأحوال.
هذا المقال هو أحد مجموعة من المقالات تختص بنقاش موضوعات إسلامية بشكل أو بآخر. ستجد في هذا الرابط قائمة بالمقالات المتاحة.
هناك صفحة أو ربما صفحات على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك تحت هذا العنوان الذي أظنه عنواناً لبرنامج تليفزيوني، وقد استرعى انتباهي العنوان بكل تأكيد لكوني مسيحياً قبطياً أرثوذكسياً، وجلست أفكر لوهلة هل أنا الآن رابح للمسيح حتى يمكن أن أربح محمداً ولا أخسر المسيح؟ وماذا سأربح في محمد يزيد عن ربحي في المسيح إذا كنت رابحاً للمسيح؟ وهل يمكن أن اربح محمداً ولا أخسر المسيح؟ كلها أسئلة منطقية لا بد أن أجيب عنها حتى أدرك مدى صحة هذا العنوان في وجهة نظري، وأنا على يقين أن رأيي سيختلف عن رأي الكثيرين في هذا المضمار، ولكن اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية كما يقولون.
هذا هو ربح المسيح الذي يقول عنه الكتاب المقدس. أن أربح المسيح هو أن أؤمن بالمسيح إلهاً ومخلصاً وفادياً، قائماً من الأموات هازماً شوكة الخطية وغلبة الموت التي اكتسبناها بعصيان أبينا آدم لوصية الله، وأن أنال هبة الألم في سبيل الوصول إلى بر الله وملكوته. يقول بولس الرسول أيضاً في نفس الرسالة:
فنحن إذ نُكافَأ عن تحمل الألم في الدنيا، نُكافَأ عن الألم الذي نتحمله ليس لعيب فينا ولكن لإيماننا بالمسيح يسوع إلهاً ومخلصاً ولسعينا لإعلان مجد إسمه القدوس بالشهادة (التي ليست هي المحاربة كما وضحت سابقاً) لحب الله المعلن على الصليب من أجل فداء جنس البشر، هذا الذي يرفضه الكثيرون ويستنكرونه، وهذا الذي نرى فيه حب الله وعدله يتفقان في تناغم عجيب. يقول بولس الرسول أيضاً:
وقد قال المسيح عن نفسه ’ابن الإنسان‘ في مواضع كثيرة في الأناجيل يصعب حصرها الآن. فكيف يكون ابن الإنسان نزل من السماء وهو في السماء في ذات الوقت إن لم يكن هو الله؟
نؤمن بالمسيح الإله المتجسد غافر الخطايا، وما لأحد من دون الله أن يغفر الخطايا:
ولهذا أنا أحسب نفسي رابحاً للمسيح، فأنا أؤمن به إلهاً ومخلصاً وأقنوماً ثانياً (ابن الله) في جوهر الله الواحد، وأؤمن بصلب المسيح وقيامته وفدائه لجنس البشر، وأؤمن أنني لن أخلص إلا بدم المسيح الفادي، حتى وإن كانت أعمالي تخلو من الخطية، "إِذِ الْجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللهِ" (رو ٣ : ٢٣)
ماذا سأربح في محمد يزيد عن ربحي في المسيح؟
إذا كان ربحي في المسيح هو الحياة الأبدية، فماذا يمكن أن أربح أكثر من ذلك؟ كل شيء يتضاءل بجانب اللانهاية، ولا شيء يعادل أن أربح حياة أبدية مع الله في ملكوته. لا شيء يعادل أن أكون في حضرة الله إلى الأبد وليس هناك حزن ولا صراخ ولا وجع:
لا أرى في محمد إلا تكذيباً للكتاب المقدس الذي كُتِبَت أحدث أسفاره قبل محمد بخمسة قرون على الأقل، وأقدم أسفاره قبله بألفي عام تقريباً. لا أجد فيه إلا نقضاً للإيمان المسيحي الذي انتشر في ربوع العالم القديم في القرن الأول الميلادي، والذي دافع عنه شهداء المسيحية ويُقَدّر عدد شهداء الأقباط فقط بحوالي ثمانمئة ألف شهيد في القرون الأربعة الأولي للميلاد قتلوا من أجل تمسكهم بالإيمان المسيحي، والذي دافع عنه الآباء الأولون للكنيسة ولقوا من أجله الاضطهاد، والذي قيل من أجله للقديس أثناسيوس الرسولي ”العالم ضدك يا أثناسيوس“ فقال ”و أنا ضد العالم“. هذا الإيمان القوي الراسخ الذي نشره أقل من مئة رسول للمسيح لم يملكوا سوى أرديتهم ونعالهم وقوة الروح القدس ولم يحملوا مزوداً ولا أحذية ولا فضة (مت ١٠ : ١٠ و مر ٦ : ٨ و لو ٩ : ٣ و ١٠ : ٤) ويؤمن به اليوم أكثر من ملياري إنسان في أنحاء العالم. ولا أجد في ذلك النقض للإيمان المسيحي القويم دليلاً واضحاً على فساد هذا الإيمان، وإنما أجد جهلاً بالإيمان المسيحي.
الإسلام لا يضيف إلى المسيحية شيئاً، بل هو يهدم المسيحية من الأساس ويستبدلها بدين آخر لا علاقة له بالإيمان المسيحي، ويوجه خطابه إلى المسيحيين داعياً اياهم إلى ترك ’الكفر‘ الذي هم فيه:
وينفي ألوهية المسيح التي هي لازمة للإيمان المسيحي بحسب كل طوائف المسيحية، ورأينا أن السيد المسيح في الأناجيل أعلن طبيعته الإلهية و قبل القول بأنه ’ابن الله‘:
فكأنما الإسلام يتحدث عن دين آخر غير المسيحية التي نعرفها ونؤمن بها، ويتهم الإسلام المسيحيين واليهود من قبلهم بتحريف الكتاب المقدس، وليس من دليل في القرآن ولا في الحديث على مواضع التحريف ولا كيفيته ولا الداعي إليه، إلا النصوص القرآنية التي ذكرت التحريف عامة دون تحديد:
فماذا في الإسلام يضيف إلى إيماني المسيحي القويم؟ لا أرى فيه إضافة!
هل يمكن أن أربح محمداً ولا أخسر المسيح؟
أن تخسر المسيح يعني أنك كنت رابحاً له من قبل ثم خسرته. ومن النقطتين السابقتين، فإنه يتضح إستحالة أن تربح محمداً ولا تخسر المسيح. إن كنت رابحاً للمسيح الأقنوم الثاني الله الظاهر في الجسد الفادي المخلص على الصليب والقائم من الأموات فلا يمكن أن تربح محمداً معه، إذ أن الإسلام ليس فيه هذا المسيح. أما إن كنت تعتبر أن المسيح رسول عادي مثله مثل باقي الرسل وباقي البشر، فأنت من الأصل لم تربح المسيح يا صديقي. وفي هذه الحالة فإن ربحك لمحمد بالإسلام لا يجعلك تخسر المسيح لأنك لم تكن رابحاً له أبداً، وتكون في هذه الحالة ربحت محمداً ولم تربح المسيح، ولا تكون ربحت محمداً ولم تخسر المسيح، أو تكون ربحت محمداً ولم تخسر مسيح الإسلام ولكنك لم تكسب مسيح المسيحية.
الاختيار في النهاية حرية شخصية لا أستطيع أن أفرضها على أحد أياً كان، ولا يستطيع أحد أن يفرضها علي، وفي النهاية وبعد أن نغادر هذا العالم ونذهب إلى خالقنا سيحاسبنا هو على ما رأيناه وسمعناه فعقلناه وعملنا به أو لم نعقله وأهملناه. احسب الخسارة والمكسب بموازينك الشخصية وقناعاتك، أما أنا فقناعتي: